مجتمع

شِعرُ المآسي: لسنا محتوى لعين لتشاهدوه

متحف لضحايا الإبادة، عندما تتحول المأساة لصيغة جمالية تتخلق من رمادها مادة للعرض الجمالي وقصائد يتغنى بها الشعراء.. هل تذهب عن الجريمة فظاعتها؟

future د. حسام أبو صفية مدير مستشفى الشهيد كمال عدوان في قطاع غزة

يحاجج الفيلسوف سلافوي جيجيك أنّ كلّ إبادة تأتي كوليدة لشِعر، هناك قالب جمالي مُجهز يُذْهِب عن الجريمة فظاعتها، يحتاج له القاتل ليُغشَى بصره، فلا يرى ضحاياه كقتلى أبرياء، إنما أنجاس تعرقل فردوسًا لا يعوق تحققه إلا وجودهم. لا يأتي الشعر في صيغة أبيات منمقة ومنظمة فحسب، قد يأتي كوعد إلهي ملحمي يبرّر دموية العودة، أو حب شاعري للوطن، يحضر فيه القاتل كمُتَيّم يعبّر بجُرمه عن ولعه ووفائه لقوميته.

12 يناير 2025 هو اليوم الذي أكتب فيه هذا المقال، أرَّقني على مدار العام الفائت تساؤل حول إبادة متلفزة بدأت قبله ثم استمرت على مداره كاملًا، ولا زالت، وقصص من سوريا طَفَتْ خلاله لسجناء في قعر الأرض عُذِّبوا بأكثر الطرق بشاعة. كيف يمكن مواجهة المدّ الشاعري - عرق مضطهد عائد لأرضه، فوجد برابرة غير قابلين للتعايش، ثم رئيس مستهدف نظامه، يحفظ محور المقاومة، و يواجه إرهابيين أطلق العدوّ عنانهم - الكائن خلف هاته الأحداث؟

فكرت أن الأمر في حد ذاته يحتاج لمقاومة، مدّ جمالي معاكس يحدّ توسّع سردية القاتل، و يصنع شِعراً تتخلق به من المأساة جمالية تدين القاتل وتموضعه في عباءة دوره، مسخ همجي يخادع نفسه، لكن كيف يكون من الأخلاقي تحويل مأساة لمادة للعرض، أو محفل هجاء بين الشعراء؟

في تدوينة نشرها الصحفي الفلسطيني معتز عزايزة على منصة X، يدين معتز تفاعل العالم مع الإبادة الحاصلة لشعبه، «لسنا محتوى لعين لتشاهدوه، بل قضية، نحاول لوحدنا أن لا نمحى عن الوجود».

تدوينة الصحفي معتز عزايزة

المفارقة في الأمر أنه لا مناص لحفظ القضايا من التماس الشِعر والجماليات، شيء حقير حول البشر يجعلهم كائنات لا يمكن أن تجترّها لرؤية المأساة الواقعة، دون إعداد جمالي مُسْبَق، أو قصص فردانية مؤثرة يتخلّق منها الشعر، كالشهيد السوري مازن حمادة -رحمه اللّه-. تبدو الإبادات من منظور البشر ترندات شائعة لا أكثر، الفيديوهات المُعدّلة على التيكتوك بموسيقى مؤثرة تجتلب تجمهرًا أكبر حول المأساة، من فيديوهات المجازر الدامية التي تُتَجاوز عمدًا لأجل أن لا يعكّر المتلقي مزاجه ويومه بالنظر إليها.

قد تتضاخم المأساة ويتفاقم ضررها، و تتضاعف الأيام، وإن كان الزمن معيارًا غير دقيق لاستبيان الواقع، تحت آلة حرب تُفقده رشاقته. قد تزداد السماء سوادًا كأنّ الكون تحتها استُبْدِل بكون غيره، لكن ما أن يتقلّص الشّعر الموثّق للمأساة، كترند يخبو على منصات التواصل، سيتعود البشر، وتُنسى المآسي، محتوى لم يعد مثيرًا للفُرْجة، حينها فقط سيفعلون شيئًا غير أن يشاهدوه.. لن يبالوا به إطلاقًا.

لا يبقى لنا أمام اعتزال المأساة هذا، غير قصائد ومجازات تُقلّد المآسي بالانتباه، تعيدها لكادر الشاشة، بتذكار أنها واقع حاصل، لا يكفي شهوده والتأثر به، ليس الضحية محتوى لعين لنشاهده ثم يذهب كلّ منا لمتاعه.

سوريا.. طفل طالع من الهاوية

يخبرني أحد الأصدقاء السوريين أنّه لم يكن قادرًا على متابعتي على فيسبوك أو قبول صداقات الكثيرين من دول أخرى خشية القمع السائد في البلاد، يقول «كان الرعب والخوف يأكلنا أكلًا يا صديقي»، كأن النظام لم يعد تجسّدًا بشريًا فحسب، إنما فكرة عملاقة تقتات على الأفراد، احتواء شمولي كسماء لا يفلت من فوقيتها أحد، يتشاركها البريء والمذنب بنفس القدر.

أتذكر صورة لطفل في الثالثة من عمره تم تحريره من سجن صيدنايا بعد سقوط نظام الأسد، طفل لم يختبر من العالم شيئًا غير جدران الزنازين، ذنبه أنه وُجِد، لم يرى الشمس ولا البحر، لا السماء ولا النجوم في الليل، تلك أشياء كأنها في كون آخر موازي لكونه، كون بعيد لا يملك عنه إلا حكايات أمّه.

الطفل السوري من سجن صيدنايا (رسوم: د. علاء اللقطة)

يبدو الطفل محاكاة معادلة لسوريا بعد الأسد، سوريا تخرج لعالم جديد، من هاوية مُقفرة لا ينفذ لها الأمل، نحو أرض جديدة لم تمشي فوقها، وسماء لم تعرفها منذ أمد طويل، خارج الرقابة التسلطية والرعب الساكن في الروح، سوريا لم تعرف الحرية إلا من حكايات السابقين، والآن تقابلها كطفل يرى الشمس، ويتعرف على النجوم.

يسهل من تلّ ابتكار الحلول وإثقال الصبي بتعاليم تفاعله الجديد مع العالم، يسهل النظر لسوريا ومحاضرتها أن عليها امتصاص صدماتها والخروج للعالم كسوريا مُوحّدة نقيّة دون أحقاد أو صراعات ومخاوف، لكن لا يمكن الحديث لطالع من الهاوية والتجرّؤ على التظاهر بفهم مأساته، من عدسة من امتلك رفاهية العيش على سطحها منذ البداية.

يكتب صديقي السوري: «علينا كسوريين أن نفهم الكابوس قبل أن نحقق الحلم»

المجاز السوري، طفل طالع من هاوية ظلماء قاسية، لا يملك سرّ مأساته غيره هو، نحن ننظر للطفل بعد أن خرج من زنزانته، الطّفل وحده من يمتلك مأساته مُجمّعة. 

أختار أن أصدّق أنه قادر على استيعاب شساعة العالم خارج الزنازين.

غزّة.. طبيب هادئ أمام دبّابة قَلِقَة

أكثر ما يقلق الإنسان خلال عمره، جهله بالمستقبل، هاته الخاصية لو انتزعناها عن البشر لانفضّ جل ما يثقل كاهله، أن يملك تاريخه مُجمّعًا، قدرية يعرف أين ستفضي به مسبقًا، لا تتعجّب في هدوء إبراهيم مُلْقًا في النّار مُطْمَئنًا وهادئًا، وموسى سائرًا ببني إسرائيل وخلفه فرعون و جُنْدُه، يقول «كَلا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ»، يملك الأنبياء الحقيقة واضحة، لا تشوبها ثغرات ليملأها الشك والقلق، لذلك تجدهم في أكثر اللحظات شدة هادئين، كأنهم يعرفون مفضيات الأمور سلفًا.

في غزة، تتكرر مشهدية الهادئ المقابل لمدرّعة عملاقة، تفاوت بصري لا يفهم تحققه شاهده، يمكنك أن ترى الندّية بينهما على تفاوت الأدوات والتجهيزات، ونيّة القتل كذلك.

طبيب فلسطيني يسير بمعطفه الأبيض وسط ركام المباني نحو ترسانة عسكرية تقابله، لم يتخلّى الطبيب حسام أبو صفية عن بذلته الطبية طوال الـ15 شهرًا في مستشفى كمال عدوان، حتى بعد استشهاد ابنه، وحصار المستشفى. يخرج نحو دبّابة ستقوده لمجهول مخيف لا يعرفه، تلك الخاصية المسبّبة للقلق في أكثر تمظهراتها جموحًا، بينما تملك الدبابة خبر المستقبل القريب، ما سيحصل بعد اعتقال الطبيب..

الطبيب حسام أبو صفية في مواجهة الدبابات

لا يمكن بعد هاته المقدّمة تخيّل واقع حيث الطبيب -الذي يحوز جزءا صغيرا من الكادر- أكثر جلاءً وسيادة من دبابات ضخمة ينرمي أمامها حطام ما دمرته، يسير نحوها وحيدًا بطمأنينة كأنها قدر أُفْصِح عنه سابقًا، والدّبابة نفسها لا تفهم ذلك، من منهما نحو حبسه سائر.

يحضر الطبيب كتمثّل بشري لغزة، قطاع يهلك مُطوّقًا، كمدينة يحكمها الموت في قصيدة لإيدغار آلان بو، لكن جلّ تمظهرات الموت فيها هادئة، كأنها انبعاث لمآسي الأنبياء الذين عاشوا فوق أرضها. تملك خبرًا واضحًا قوامه خلاصها.

المجاز الفلسطيني، آلات تستوطن كادر الصور الموثِّقة للصراع، وبشر لا ينالون إلا حيّزًا صغيرًا يلائم ضآلتهم البنيوية، دبابات في مواجهة أطفال بحجارة أو طبيب أعزل، ومقاوم على كنبة وفاته بعصى في مواجهة مُسَيرة، بيد أنه في كل كادر، تحضر الآلة بقلق، تتفحّص بشرية ضحاياها، ويحضر الفلسطيني بهدوء تتسرّب منه للصورة الكاملة مشروعية قضيّته.

يستشهد الفلسطيني ولربّما يُحبَس، ولا زالت الآلة قلقة لا تصدّق بافتكاكها من بشريته، وللمفارقة تصيب الآلة في قلقها، ويعود البشري بطينيته وهدوئه في بنية أخرى ليُفسد كادر سيادتها من جديد.

يلخّص الشاعر الفلسطيني تميم البرغوثي ذلك في قصيدته، «نفسي الفداء»:

«يريد أن يتأكد الجندي أن القوم موتى

ربما قاموا، يحدث نفسه في الليل

يرجع مرة أخرى لنفس البيت، يقصفه،

ويقنع نفسه، ماتوا، بكل طريقة ماتوا،

ويسأل نفسه، لكن ألم أقتلهمو من قبل،

من ستين عاماً، نفس هذا القتل،

نفس مراحل التنفيذ،

لست أظنهم ماتوا،

ويطلب طلعة أخرى

من الطيران تنصره على الموتي

ويرفع شارة للنصر مبتسماً إلى العدسات

منسحباً، سعيداً أن طفلاً من أولئك لم يقم من تحت أنقاض المباني

كي يكدره

ويسأل نفسه في الليل، ما زال احتمالاً قائماً أن يرجعوا

فيضيء ليلته بأنواع القنابل،

سائلا قطع الظلام عن الركام وأهله

ماذا ترين وتسمعين

فتجيبه

لم ألق إلا قاتلاً قلقاً… وقتلى هادئين.»

الشرق الأوسط.. منطقة اهتمام

قبله بعام صنع جوناثان غليزر «The Zone Of Interest» ، فلما منطقة اهتمامه عائلة نازية، على الجانب الآخر من المحرقة اليهودية.

يُحوّل «جوناثان غلازر» بذكاء اتجاه كاميرا الهولوكوست - التي التقطت لعقود مشهدية معاناة اليهود في أعمال كـSchindler's List و Life is beautiful - صوبَ الجُناة أنفسهم، ضابط نازي يعيش وعائلته في فردوس أرضي. تحضر العائلة كصورة نموذجية، لأسرة مثالية، مَطلب جمالي يحلم به الجميع، في بيت ينضح اخضرارُ حديقتِه بالحياة. 

مشهد في فيلم «The Zone Of Interest»

لا تعدو الإبادة في هاته السردية المخادعة كونها خلفية صاخبة، ضفة مقابلة لسياج ضخم يعزل العائلة عن ضحايا مزعجين، ينكّد صراخهم سلام العائلة، ويعيب رمادهم سماء الفردوس النازي.

يصنع «جوناثان غلازر» في فيلمه فخًّا جماليًا لا يمكن غض الطرف عنه، يتحول جرم تاريخي فيه لمُعكِّر قبيح سيفكّك شمل نموذج كامل لعائلة سعيدة. لا يحتاج الأمر لخلق تلك العدوى الجمالية إلا إدارة الكاميرا في اتجاه الضفة الأخرى. ستبدو أكثر اخضرارًا وتتلاشى المأساة خلف ظهرك، كحدث محجوب أو غير مرغوب شهوده لأجل أن لا يزول جمال الضفة المنظورة.

مجاز الشرق الأوسط، لاعب خفّة ماهر، مهارة كاميرا جوناثان غليزر، يصعب استيضاح الضحية فيها من براعة التلاعب، الجلّاد جميل جدًا، جمال مجندة إسرائيلية حسناء تتراقص على التيكتوك، يصعب تخيّلها وهي تُرسل قذيفة تُسقط بها منزلًا فوق رؤوس ساكنيه بغزة، لا يعاني في السردية غير الجلاد القلق، الضحية يصرخ باستمرار، بئس المزعج الذي يستحق الإبادة.

تتحوّل المقاومة في مشهدية كهاته لعدوّ جمال يحارب الديموقراطية الهابطة من عليائها لتُمَدّن الأرض التي لم يعرف البرابرة إعمارها، والإنسان العربي فيها، حيوان بشري لا يُعرقل اكتمال جمال المشهد إلا وجوده. 

خَلْطة سحرية كاملة، يمكن بعدها النفاذ بأي جريمة بشرية بل وتحويلها لبطولة تُنهي القبح في العالم، تحافظ على اخضرار المشهد وتُطهّر سواد سمائه.

في المشهد الختامي من الفيلم، يُصَوّر «جوناثان غلازر» متحفًا لضحايا الإبادة وقد تحولوا لصيغة جمالية، يُبدِي المشهد بحزن اللحظة التي منحهم فيها العالم التفاتة الكاميرا، بعد أن تخلّقت من رمادهم مادة للعرض الجمالي. يُنظف زجاج مشهدية أحذيتهم و صورهم عُمّال نظافة، تحوّلوا لعرض قصائدي يتغنّى به الشعراء فيخلقون من مأساتهم شيئا من الجمال... 

وهذا مأزق البشر، لا تُمنح القضايا خلاصها بأحقّيتها، إنما بصيغتها الجمالية، حتّى الأخلاق التي آمنوا بها تقع بحماقة في الفخّ الجمالي، كلّما تبدّى أمامها..

مشهد من فيلم «The Zone Of Interest»

أكتب كشِعر معاكس، مدّ جمالي يموضع الضحية على مرآى أعين العالم، يعرف قُصر تأثيره وتواضعه، يعرف ذنبه في تحويل المآسي لمحتوى لا يُفْتَرَضُ أن يُشاهد ثم يُغَضّ الطرف عنه، لكن لربما في المجاز أمل أختار أن أؤمن به..

أطفال طالعون من الهاوية لتعمير سطحها موحّدين، وبشر يحطّمون الآلات وينفردون بكادرهم.. 

وأرض مآسي، تحوّلت لمنطقة اهتمام، قبل أن تصير شِعرًا في المتاحف، حدثًا أدبيًا لا يمكن تداركه، لا يربطه بالواقع غير ماضٍ سحيق حزين.

# أدب # حرب غزة # طوفان الأقصى # شعر # مجتمع # منحة أبو الغيط للكتاب 2025

هل نستطيع محاربة الفاشية بالانتخابات؟ نظرة على صعود اليمين المتطرف في انتخابات 2024
وهل الموت أمر سيئ؟
رامبو: البحث عن منفذ لخروج الجميع

مجتمع